من سنن الله في خلقه تناقص الخلق وتقارب الزمان

من سنن الله في خلقه تناقص الخلق وتقارب الزمان

من سنن الله في خلقه تناقص الخلق وتقارب الزمان

الكاتب: محمد سلامي 

إن تفسير التاريخ عند أي دين نابع من تفسير ذلك الدين للحياة أو لِنقُل هو نفسه، فالتاريخ هو استمرار للحياة عبر الزمان، ولذلك فإن تفسير الإسلام للتاريخ مختلف عن التفسير المادي، وما سطرته نظرياته.

   فنظرة الإسلام للتاريخ لم تكن من زاوية العمران أو الحضارات التي قامت في أرجاء المعمورة، ولم يرد في القرآن ذكر لتلك المدنيات على سبيل المدح، إلا تلك التي كانت تعمل في سبيل تحقيق الغاية التي أرادها الله بتسخيره عناصر الطبيعة للإنسان، فتستغل القوة والعلم الذي حباها الله به لتحرير البشر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فذكر ذا القرنين وملوك بني إسرائيل كيوسف وداود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام- ومدحهم، لأن هذه المدنيات لم تكن تجعل القوة والملك والمجد غاية في حد ذاتها.

بخلاف تلك التي بلغت الذروة في العلم والمجد فأهلكها الله ودمّر ما بنته وشيّدته بسبب كفرها بالله، فوصفها بالكفر والضلال، ولم يتعرض لها إلا على سبيل الذم للإعتبار بها، لا على سبيل التعظيم والإجلال لما قدمته للإنسانية من علم وفكر، لا كما يفعل اليوم أقوام بفخرهم بأجدادهم المشركين وتعظيمهم وتخليد أيامهم بل وعقائدهم الفاسدة باسم الثراء الثقافي، ومع ذلك يظنون أنهم مسلمون.

   فهذه المدنيات الجاهلية كانت تبتغي بعلمها الدار الدنيا، فهذه الدار الفانية هي منتهى سؤلها وغاية سعيها، كما قال الله -تعالى-: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7]، وكانت غاية الفرد والمجتمع فيها سواء لا تتجاوز حدود هذه الدنيا.

   ومع كل هذا فالإسلام لا يهمل الحياة الدنيا ويدعها خرابا يبابا، وإنما يعطي كل جانب حقه، فلا دنيا مطغية ولا رهبانية مميتة، قال الله -تعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].

   فوفق هذا المعيار تسير حياة المسلمين ويصرّفون أمور دنياهم، فإن سعيهم وكدحهم في هذه الدار هو من العبادة التي خُلقوا لأجلها، وينتظرون جزاءهم منها في الدار الآخرة، وإن كان نصيبهم في هذه الحياة سيحضون به –قل أو كثر- فإنه ليس هدفا ذاتيا، بل هو وسيلة لهدف أكبر.

   ونحن نرى الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين غير المسلمون يقدمون لنا التاريخ والحياة عموما على أنها بناء وتشييد وعلوم وانتصارات كهدف ذاتي، ولا فرق بين دولة غايتها هي الغاية التي يرضاها الله لعباده وأخرى كافرة إلا بما بلغتاه من تطور مادي واتساع جغرافي.

   وهؤلاء يقدمون لنا حضارة المسلمين السابقة على أنها استمرار للحضارات التي سبقتها، وهم إذ يقولون هذا لا يبصرون من الصورة إلا وجهها المادي المحض، وهذا يصح إذا عرفنا بأن البشرية منذ عصرها الأول، وهي تعمل على تيسير سبل العيش، وكل جيل وكل حضارة تعتمد أولا على ما أنجزته سابقتها ثم تكمل ما قصرت دونه الأولى وتطوره وهكذا.

   فتفسير التاريخ ذو المنبع الجاهلي يتناول أولا وسائل الإنتاج ومستوى معيشة الإنسان وحياته السياسية والإجتماعية والعلمية ثم ديانته ومعها أساطيره، ويرون أن الإسلام مجرد نحلة من هذه النحل التي اخترعها الإنسان، وليس الإسلام عندهم غرضا في حد ذاته، وإنما هو وسيلة فقط لغرضهم الدنيوي، وينظرون إلى حضارة المسلمين من هذا الجانب، ولا يعتقدون أن تخليها عن دينها هو سبب انحطاطها، بل يرونه في عدم القدرة على الإبتكار والتمكن من العلم والسيطرة.

   لكن رغم الإختلاف الجوهري بين حضارة المسلمين وغيرها فإنها لم تكن بمعزل عن سنة الله في الحياة، فسنن الله لا تحابي أحدًا، مسلما كان أو كافرًا، فالحَر والقر ينال منا جميعا، والمرض والموت يصيبنا جميعا، وعلينا جميعا أن نحمي أنفسنا ما استطعنا بوسائلنا، فالحضارات المسلمة تطرق إليها الضعف والفناء على غرار الحضارات الكافرة سواء بسواء، ولله أمر هو بالغه.

   وإن كانت الدولة تمر بمختلف أطوار حياة الإنسان من النشأة إلى الشباب إلى الكهولة والإستواء إلى الهرم ثم الفناء كما يقول ابن خلدون، والدولة جزء من الحضارة، وقد تبنى الحضارة الواحدة بدول كثيرة، كما هو الحال عند المسلمين، وبصورة أكثر عند الغرب في عصرنا الحاضر.

   فكذلك الحضارة الأم تمر بمختلف مراحل حياة الإنسان، تنبت وتينع شيئا فشيئا، حتى تستوي وتبلغ ما قدره الله لها من سؤدد، بما قدره لها ورزقها من وسائل القوة، ثم تبدأ في التغير من حال إلى حال بتغير الأجيال محاولة منها للبقاء، فإذا بها تتناقص وتذبل إلى أن تغيب، وأمر الله لا مردّ له، وسرعة التغير من الأسفل إلى الأعلى ثم من الأعلى إلى الأسفل تكون متناسبة.

   كذلك اقتضت سنة الله في الخلق أن تكون الحضارات الموغلة في القدم أطول عمرًا من حضارات العصور المتأخرة، فإذا كان عمر الإنسان في العصور الأولى يقاس بالقرون فهو في العصور المتأخرة يقاس بالسنين، لكن الإنسان الحاضر يستحق أقل زمن لكي يقوم بما كان يقوم به الإنسان الأول في زمن أطول، حيث تتغير الحياة اليوم بوتيرة سريعة.

   كذلك من حيث البنية الجسدية، فالإنسان الأول كان أكبر جسدا من الإنسان المتأخر لصعوبة سبل العيش من قبل، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا وأن ذريته لم يزالوا يتناقص خلقهم حتى الآن) [رواه البخاري ومسلم]، والإنسان في هذه العصور المتأخرة لا يحتاج إلى الجسد الضخم للتفاعل مع الطبيعة لسهولة سبل العيش لديه.

   نرى ذلك في فترات النبوة عبر العصور حيث كانت في العصور الأولى تطول عموما حتى تصل إلى عدة قرون، أما في العصور المتأخرة فهي سنين معدودات، والرسالات الأخيرة مدتها قصيرة، ولكنها حققت ما لم تحققه الرسالات الأولى في زمن أطول.

   ونرى ذلك إذا تأملنا أعمار الإمبراطوريات والممالك السابقة والحاضرة حيث صار عمرها يتناقص باستمرار إلى عصرنا هذا، حيث نجد أن الحضارة المصرية دامت حوالي خمسة وعشرين قرنا وحضارة العراق دامت حوالي ثمانية عشر قرنا، وكانت لا تجدد قواها إلا بعد بضعة قرون.

   لكننا نرى أن الحضارة الغربية المعاصرة لم تثبت قدم دولة من دولها التي تولت زعامتها منذ عهد الإمبراطوريات البرتغالية والإسبانية تلتها الفرنسية والبريطانية ثم روسيا وأمريكا، وكلها لا تتجاوز القرنين من الزمن، وأكثرها لا تقاوم إلا قرنا أو نصف قرن، ثم تتراجع إلى الوراء، لتقوم أخرى تجدد مسيرة الحضارة الأم، وهذا التجديد دليل على عدم الإستقرار والتآكل الداخلي المتواصل، فالإستقرار هو الذي يسمح للحضارة بالعيش أطول مدة ممكنة.

   ولا نجد هذا الإستقرار في عهد حضارة المسلمين، بل إن ما جرى يومها أقرب إلى ما رأينا ونرى في الحضارة الغربية التي دبت فيها عوامل الفناء بعد بضعة قرون فقط من نشأتها، وهذا بشهادة علمائها ومفكريها، وليس لبطلان مبادئها دخل في ذلك، بل هي سنة الله، ولو كان الفناء خاصا بالحضارات الكافرة ما كان لها أن تقوم أصلا إذا عرفنا أن بدء البشرية كان على الإسلام.

   وإذا تأملنا حال حضارة المسلمين نجد أن أطول دولة قادت المسلمين عمرًا وأوسعها رقعة هي الدولة العباسية، التي اعتمدت على العنصر الفارسي بعد انتهاء الدور العربي بانتهاء دولة الأمويين، وبعد الفرس جاء الأتراك ثم البويهيون ثم السلاجقة، ولم يكن لها أن تعيش لولا هذا التجديد المستمر.

   ونرى ذلك في الدول التي تداولت على خطوط المواجهة في البحر المتوسط وبلاد الفرس وما وراءها، ولم يكن ذلك تغييرا سياسيا فحسب، وإنما هو تجديد لقوى الأمة كلما ضعف عنصر منها عن العطاء، والتغيير السياسي تابع لذلك التجديد وجزء منه، وهذا التجديد أو عدم الإستقرار، دليل على التآكل الداخلي للأمة لبعدها عن زمن النبوة، وضعف بعض القيم الإسلامية عند الأمة وتضاؤلها باستمرار، ثم اضمحلالها.

   لا يختلف إثنان في أن الأمة قد ضعفت وانحطت، لكن الخلاف في ماهية هذا الإنحطاط والتخلف، فإن ذوي النظرة القاصرة المنفصمة عن عرى الإسلام يرونه انحطاطا ماديا واستراتيجيا، ولا همّ لهم في أمر الدين سواء كان أو لم يكن، ويتجاهلون أن الدين هو روح أهله، لا حياة لهم دونه، كما لا يحيى الجسد إذا فارقته الروح.

   وإذا تقرر عند المسلم –بحكم إسلامه- أن مصاب هذه الأمة الأعظم في دينها، فإنه يعرف –بحكم إسلامه أيضا- درجة هذا الإنحطاط ومدى بعدها عن الإسلام، إذ أن مظاهره مازالت قائمة بقوة في الأجيال الحاضرة، فهل هو انحطاط جزئي لم يتجاوز الجوانب الثانوية، أم هو انحطاط كلي شامل وتغيير للمبدأ الأساسي الذي قامت عليه الأمة ؟

أرسل تعليقا لصاحب المنشور (لا ينشر على الموقع)