التصور قبل الحركة

التصور قبل الحركة

التصور قبل الحركة

الكاتب: محمد سلامي

ما سبب تراجع تيار (الجهاد هو الحل) مقارنة بالثورات الوطنية والقومية في القرن الماضي؟ أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في أمرين:

   أحدهما: أن حركات اليوم تكافح في عالم توحّد ضدها، وليس من الإنصاف أن ننتظر منها تحقيق ما لم تحققه، ولم تلق ذلك الدعم القوي الذي لقيته الحركات السابقة من طرف الشعوب والأنظمة المناهضة للغرب، فقد قفزت القضية الجزائرية إلى مؤتمر باندونغ بعد شهور فقط من قيام الثورة.

   كما أن الغرب كعدوّ لم يكن موحّدا ضدها، فكانت تواجه دولا اختل توازنها بعد الحرب العالمية الثانية لصالح أمريكا، التي ورثت زعامة الغرب بعد أن خرجت من تلك الحرب بأقل الخسائر وأكبر الغنائم، وقد أعلنت مبادىء ويلسن حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولم تمانع في تدويل قضاياها وعرضها على منظمة الأمم المتحدة، ولم يبق للإمبراطوريات الأوربية سوى أن تسير إلى الموت الحتمي.

   لذلك كان التوجه العالمي العام يسير نحو تصفية الإحتلال المباشر، ولم تقف في وجه هذا التوجه سوى أطراف ضعيفة داخل دول الإحتلال، تركزت بالخصوص في الأجيال التي ولدت ونشأت في البلدان المحتلة، من أصحاب الثروة المتحالفين مع الجيش، لكن القيادات في الوطن الأم كانت مقتنعة بحتمية تغيير الإستراتيجية بعد بروز الدور الأمريكي الذي لا يقنع حتى بخيار المشاركة.

   والأمر الثاني -وهو الأهمّ في نظري- أن الحركات التحررية السابقة كانت تستمد عقيدتها من عقيدة الشعب، فكانت تمثل آماله وأهدافه ومصالحه أحسن تمثيل، وربطت مصيرها بمصيره، ونجحت بقدر تمثيلها لعقائد الشعب، فحدث التلاحم، فكان الشعب حامي ظهرها ومخزنها الذي يمدها بالموارد البشرية والدعم المعنوي والمادي.

   أما حركات اليوم فقد تبنت هدفا لم يعرفه الشعب ولم يدن به، ولذلك تقبّل الدولة العلمانية ونظامها، وإن على مضض، لكن لم يكن له من الإسلام والإيمان ما يجعله يرفضها، فضلا عن أن يثور ضدها، فضلا عن أن يبلغ درجة التوتر النفسي القصوى التي تفرضها عليه قوة الخصم، فهذه الشعوب تتعاطف عموما مع شرائع الإسلام وتاريخه، لكنها تستصعب وتستثقل تكاليفه، ولذلك لا تجد حرجا في القبول بالشرائع العلمانية التي ألفتها.

   وبلوغ درجة التوتر النفسي القصوى ليس مستحيلا اليوم كما لم يكن مستحيلا بالأمس، يوم تغلب رعاة الإبل على فارس والروم في عام واحد (القادسية واليرموك)، لكن بشرط أن يتحقق نفس صفاء العقيدة الذي كان بالأمس، ولا أتحدث هنا عن درجات الإيمان والإخلاص والتفاني في خدمة الدين، ولكن أتكلم عن مصداقية المبادىء وصحتها أوّلا.

   إن الحقيقة المرة التي لا يقبل الكثيرمن المتحمسين التفكير فيها هي أن هذه الأمة التي يطالبونها بالجهاد لإقامة الدولة الإسلامية قد أخلّت بعقيدة الكفر بالطاغوت ولم تستوف حقيقة الإسلام، إن الإسلام لا ينتصر بأناس لا يذكرون الله إلا إذا قصف الرعد أو قصفتهم الطائرات، ويظن دعاتهم أن الكفر بالطاغوت هو معاداة الظالمين، ولذلك كلما استمالهم أئمة الكفر بالتي هي أحسن ركنوا إليهم، وليس من الإنصاف أن نطالب أمة بأن تنصر عقيدة لم تؤمن بها، وإن كانت تتعاطف معها أحيانا على جهل بفحواها.

   إن الذين يطالبونها بذلك نعرف أن أول ما يلفت انتباههم ويشدهم ويثير شوقهم من تاريخ الإسلام هو العزة التي صاحبت الفتوح الإسلامية ومواقف البطولة والإباء، لا التوحيد المنسي، لذلك راحوا يبحثون عن الوسائل المثلى لإقامة الخلافة الراشدة، غافلين عن أن الإسلام لا يقوم إلا بمسلمين حقا، أما غيرهم ممن يظنون أنهم مسلمون فلا يعرفون فرقا جوهريا بين حالهم اليوم وحالهم لو تحققت هذه الخلافة، سوى أن تغطي النساء رؤوسهن، أو أشياء من هذا القبيل، وبما أن المساجد مفتوحة اليوم وغدا فإنه لا داعي لأي تضحية ما داموا مسلمين في كل الأحوال…، هكذا يفكرون.

   يعتقد البعض أن الإسلام سينتصر بفضل ارتفاع نسبة الخصوبة لدى العائلات، حتى لدى الجاليات في الغرب، أو بفضل الموقع الجغرافي الإستراتيجي، أو بامتلاك السلاح النووي، وربما قيل نفس الكلام من قبل عن النفط، ويغيب عنهم أن كل هذه الطاقات ليست هي طاقات المسلمين المعطلة التي ينقصها الإستثمار، وإنما هي موجهة لخدمة مبادىء أخرى غير الإسلام.

   إن قوما ينظرون إلى ما آلت إليه أمتهم من ذلة وهوان فتقتلهم الحسرة، بينما هذا الأمر طبيعي لأمة ضيعت دينها، وليس مستغربا ذلك، بل الغريب لو رأيناها عزّت وسادت بين الأمم، فكل ذلك ينافي سنة الله في الأمم.

   إنها لا تملك شيئا ذا قيمة تقدمه للعالم، بما أنها لا تختلف عن غيرها من الأمم في نظام حياتها، فهي تدين بدين هذا الغير، دين العلمانية، إلا إذا أريد لها أن تمتشق السيف لأجل السلب والنهب، أو لتلطم من لطموها، وتستعلي عليهم كما استعلوا عليها، ثم يقال: هذا هو النصر والتمكين وغاية المنى !

   وإن قيل أنها ستنصر الإسلام، نقول: هيهات، لن تنصر الإسلام حتى تعتنق الإسلام، ولن تعتنقه حتى تعرفه، وإلا فيمكن لأي مذهب يتلبس بالإسلام أن يحتال عليها، وسيكون حالها كحال الذي طلب من غيره الدخول في الإسلام، فقال: ماذا أفعل لأدخل في دينك هذا؟ قال: لا أدري !

   حتى إذا اعتنقت العقيدة التي اعتنقها من قبل أولئك الذين فتحوا الدنيا، عندها تكون قد وضعت قدمها في الطريق الصحيح، فالعقيدة قبل العمل، والتصور قبل الحركة، وبما أن النظم التي تسيّر الحياة لا تتعايش بل تتنافر وتتدافع تدافع النقيضين، فإن نظام حياتها يدفعها لأن تفرضه في هذا الكون.

   تخيل الكثيرون زمن الإحتلال السابق أنه بمجرد إخراج الجيوش المحتلة ستعود هذه الأمة إلى رحاب الإسلام، وأنها ستضع أول لبنة في طريق التمكين للدين، فكانوا يتقدمون الصفوف الأولى للذود عن الوطن، وبعد خروج المحتلين تبين أن كل ذلك كان حلما وتبخر، وتجرع البشير الإبراهيمي في الجزائر المرارة والخيبة بعد أن اتضح له أن مبادىء نوفمبر لم تدرج فيها كلمة الإسلام إلا استغلالا واحتيالا، ونفس الخيبة تجرعها الإخوان في مصر، والذين كانوا أول ضحية للدولة الوطنية.

   ولا زالت الخيبات تتوالى على من يطلبون من الشوك عنبا، والكثيرون مع الأسف لا يعتبرون، ويالسعادة العلمانية بهم.

   ليست أمريكا أو عملاؤها سبب المشكلة أبدا، كما لم يكن الفرس والروم سبب هوان العرب قبل الإسلام، بقدر ما كان الهوان كامنا فيهم، فلو لم تكن هناك أمريكا لصنعتها هذه الأمة وخضعت لها، إنها لا تملك غير ذلك.

05-06-2008

أرسل تعليقا لصاحب المنشور (لا ينشر على الموقع)