عقيدة تيران وصنافير
محمد سلامي
نشر في: جويلية 2017
اتّحد المصريون بمختلف انتماءاتهم كما لم يتحدوا من قبل، لم يتّحدوا دفاعا عن إسلام مطارَد ولا غيرةً على شرف مهان، فقد تحمّلوا تجفيف ما بقي من دين محمد صلى الله عليه وسلم، وصبروا على بيع العِرض دون الأرض، لأنهم يؤمنون بأن التنازل عن شبر من تراب الوطن خيانة ما بعدها خيانة، وتلك ثمرة التربية الوطنية العلمانية التي صنعت هذه الأجيال.
لقد ترك المحتلون الأوربيون مشاكل حدودية مفروضة بين كل الدول كفتيل يشعل الحروب، فإذا قامت الحرب كان لكل وطنيّ من الطرفين جنّته التي يستشهد في سبيلها، مع العلم أن القتال بين دولتين مسلمتين فتنة توجب النار للقاتل والمقتول، لكن العقيدة الوطنية العلمانية تفرض الدفاع عن الوطن بحق أو بباطل.
وقد وجدت هذه الدول نفسها بين مرجعيتين:
إحداهما الإقرار بالخرائط التي رسمها الاحتلال في القرن الماضي كأمر واقع، وهذا في الحقيقة ليس حلا مؤقتا لتفادي النزاع الحدودي، بل هو إيمان وولاء مختار يُربّى عليه الشعب، لأن راسم هذه الحدود هو نفسه المرجع لنظام الدولة والمجتمع.
أو العودة إلى ما قبل الاحتلال وما قبل تشكل الدولة الوطنية، والاستناد إلى الخرائط العثمانية وغيرها، وهذه مرجعية شكلية، تهتم بالعرض دون الجوهر، وبالقشرة دون اللبّ، لأن نظام البلد العلماني اليوم لا يتفق مع ما كان في ذلك الوقت.
وما كانت الحدود السياسية لتكون مشكلا بهذا الشكل لو كان الناس مسلمين، فقديما اختلف المسلمون وانقسمت دار الإسلام، لكن كانت شهوة السلطة هي الدافع لذلك، ولم تكن هذه الدول بحدودها عقيدة للناس كما هي عليه اليوم.
فخطورة المرض تتجلى في كون هذه العقيدة غير مرتبطة بالحكام فقط، إذ أن عامة الناس اليوم هم الذين ينكرون على الحكام التفريط في السيادة على أي شبر من الوطن المقدّس، ويعتبرون السعودية قوة احتلال.
ويتمسك الفلسطينيون بحق العودة ولو تحت ظلال احتلال، وعندما أفتاهم الألباني بالهجرة من فلسطين لاعتقاده الفاسد أن البلاد الأخرى بلاد للمسلمين، قال الغزالي:هذه الفتوى قرّة عين إسرائيل.
ولوكانوا بعقيدتهم هذه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنكروا الهجرة ودعوا المسلم المكي والمسلم اليثربي إلى العيش في ظل حكم الجاهلية، فالأصل في دينهم هو التمسك بالوطن والولاء له، والوطن هو الانتماء الأول، ومنه جاءت الفتوى بوجوب قتال (المسلم الأمريكي) مع جيش وطنه ضد الأفغان.
لقد كان المسلمون في دار الإسلام ينتسبون إلى قبائلهم فهذا قرشي وذاك تميمي، أو ينتسبون إلى بلدانهم فهذا يمني وذاك مغربي، أو إلى مدنهم فهذا بغدادي وذاك مروزي، وبعد أن صار المُلك والوزارة متوارثة لم يكونوا ينتسبون إلى العائلات الحاكمة، فلم يكن الناس عباسيين أو طولونيين أو أدارسة،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ) (رواه البخاري).
إلى أن جاءت الدولة السعودية الثالثة، وهي الدولة الوحيدة في العالم الآن التي لم تجد إلا نسب العائلة المالكة لإطلاقه على الدولة والبلاد والشعب، فقد جمعت بين الطريقة القديمة والبعد الوطني العلماني كولاء، حتى يكون الولاء للوطن وللملِك واحدا في نظر الشعب.
والأمر ليس متعلقا بمخالفة نص الحديث بقدر ما هو دين آخر له حدوده وضوابطه، فالسعودية ليست نسبا قبليا، ولكنها وطن يتبنّى امتصاص كل الانتماءات بما فيها الإسلام لصالح الهوية الوطنية، ولذلك ليس من شرعها فرض الجزية مثلا على غير المسلمين ولو حسب تعريفهم للمسلم، فهذا حكم باطل في شرع الوطنية، بل هم مواطنون لهم نفس الحقوق والواجبات.
لقد نبذ الناس هذه الحدود السياسية يوم فرضها المحتلون ولم يعترفوا بها، لكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال صاروا يقدّسونها ويتمسكون بها، ويظنون ذلك من الإسلام، وهم يحلّونها محلّ الإسلام.
وصاروا يخجلون من وصف المسلم وغيره داخل الوطن الواحد إلا إذا اضطُروا إليه اضطرارا ثم يتبعونه بالاعتذار، كأنهم نطقوا بفاحش من القول، ويحذّرون من تغليب الانتماء للإسلام أو النصرانية على الانتماء للوطن، بزعم أن تقسيم الناس على أساس الانتماء لتلك الأديان طائفية وعصبية جاهلية، أما تقسيمهم على أساس الأقطار فلا، إلى أن تنشب العلمانية مخالبها وتجعل قراءة سورة الإخلاص جريمة في حق أهل التثليث، بحجة أنها ازدراء للأديان وتهديد للوحدة الوطنية.
لقد أُشرِبوا في قلوبهم الولاءَ للوطن وتقديسه، ووضعوه فوق كل اعتبار ولو كان الإسلام، فليست المشكلة مشكلة تضاريس وأقاليم وجغرافيا سياسية، بل ولاء يغلب أي ولاء.
تقول لك الوطنية: لا يهمّني دينك ولغتك، المهمّ أنك ابن وطني،وتقول لك القومية: لا يهمني دينك ووطنك، المهم أنك تتكلم لغتي، والإسلام يقول لك: لا يهمني وطنك ولغتك، المهم أنك على ديني.
ولذلك فالمسلم يعتقد أن هذه الأوطان مجرد تقاسيم إدارية مثل البلدية والمحافظة، ويعتقد أن الأعراق والقوميات أنساب وسلالات مثل القبيلة والأسرة، وليست دينا.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13 )