هل تنظيم “الدولة” صناعة مخابراتية؟
محمد سلامي
نشر في: 13ـ11ـ2016
منذ قرن من الزمن نشأ في بلادنا تيار يسعى لاتباع الغرب في معتقداته ونظام حياته، بما أنها لا تسمى في العرف العلماني أديانا، وفُسح له المجال إلى أن تولى الحكم بعد الإحتلال، ولقي هذا التيار مقاومة ممن يسعى للتمسك بالإسلام، غير أن مفهوم الإسلام عند الناس كان أضعف من أن يقف ندًّا للعقائد الغربية، لكنه ظل منافسا لها، وهو يتحدى يوما بعد يوم.
وكان المحتلون يصنعون لنا قياداتنا العلمانية حتى لا نقاومهم باسم الإسلام، فقاد العلمانيون حركات التحرير في منتصف القرن العشرين، كما فُسح المجال لدعوات تبحث عن التطبيق الأمثل للإسلام، لتبقى الحرب مشتعلة بينهما بعد خروج المحتلين، وسيبقى التياران متصارعين في المستقبل، وكلاهما يتهم الآخر بالعمالة لأنه يقف في وجه مشروعه، كعادتنا في تخوين المخالف والخصم.
ولو كان في الأمر خيانة لانتهت خلال مرحلة ما، ولا تورّث الخيانة جيلا بعد جيل، ولكنها العقيدة التي يغفل عنها ضعاف العقول، أو لا يقبلون الإقرار بها، فيختزلون الخصومة في الخيانة، لأنهم لا يملكون الشجاعة لخوض معركة الأفكار وصراع العقائد، ولخشيتهم من بطلان ما هم عليه.
وعبيد الشهوات يميلون الى تهمة الخيانة على أن المخالف يبتغي شهوة كعادتهم، ولا يحمل مبادىء مخالفة قد تكون صحيحة فيفتضحون، فيلجأون إلى أسهل الحلول وهو محاكمة النيات.
لقد تغلّب الغرب على هذه الأمة في معركة العقائد لا معركة الجوسسة والجوسسة المضادة، لقد أقنعوها منذ أجيال بالتحول عما بقي لها من دين إلى دينهم، فقد يكون هذا الحاكم أو المعارض عميلا لجهة خارجية، لكن هل يعقل أن يكون أنصاره عملاء لولا أنهم مؤمنون بالمنظومة الفكرية والمشروع المعلن الذي يدعوهم إليه!؟
المعارضة تتهم الحكام بالعمالة، والحكام يتهمون المعارضين بالعمالة وأنهم جزء من مؤامرة خارجية لتبرير التدخل، يعني اصبروا على ظلمنا لأنه أصل لا يمكننا التخلي عنه، حتى ولو أدى ذلك إلى الخراب والانقسام والاحتلال، وإلا فإن الشعب يطالبك بحقوقه التي أضعتها، وأنت الحاكم عليك أن تحبط المؤامرة التي تتكلم عنها باستباقها وتعطي شعبك حقه، إلا إذا كنت جزءا من المؤامرة.
ويتفق العلمانيون والشيعة والصوفية على أن الوهابيين صناعة الإنجليز، كأن الآيات والأحاديث التي يستدل بها هؤلاء تَقوّلها الإنجليز، ولكن هذا يعفيهم من مسؤولية الرد على الدليل بما ينقضه.
وإذا أتينا إلى دعاة الجهاد نجد تنظيم القاعدة يتهم تنظيم الدولة بالعمالة لضرب التيار الجهادي، أما السعودية وحلفاؤها فيقولون أن جميعهم صناعة إيران بالإشتراك مع الغرب لتبرير ضرب السنة، وإيران وحلفاؤها يقولون أنه صناعة السعودية لضرب الشيعة.
ومع أن السعودية تموّل أعداء المشروع الإسلامي في كل مكان، إلا أنهم يتهمون أبناء هذا المشروع بأنهم مموَّلين من السعودية، ومن يعلن الإسلام في الغرب يُتهم هناك بأنه يحظى بتمويل من السعودية، ومن يتنصّر هنا يُتهم بطلب المال والإقامة في بلاد الغرب.
ويتهم اليساريون الجميع بالعمالة لأمريكا، فالتيار الباحث عن الإسلام صنعه الغرب لمواجهة روسيا وشيطنة الاشتراكية، ولا تسمع أي كلام عن العمالة لروسيا لأنها منهم وهم منها، وكان دعم أمريكا للأفغان زمن الحرب مع السوفيات مثارا لتهمة العمالة بمعنى الصناعة والتكوين من العدم، رغم أن ذلك من باب عدو عدوي صديقي ولو مؤقتا، بهدف إضعاف العدو الأقوى بعدو ضعيف يمكن التعامل معه من بعد بسهولة، وهذا ما جرى ويجري، وحتى التنظيمات التي تحارب أمريكا متهمة بالعمالة لها أيضا، لا لشيء إلا لأنها تقف منافسا للمشاريع الأخرى.
كما كانت الحركات التحريرية من الاحتلال الفرنسي والإنجليزي متهمة بالعمالة للشيوعية، وبعد أن تحررت هذه الدول صارت مناطق نفوذ وتبعية للسوفيات، وفقا لعقيدة قادتها.
ويتهم الإخوان الحكام بالعمالة للغرب، والحكام يتهمونهم بنفس التهمة، وهؤلاء الإخوان المتهَمون يتهِمون بدورهم من يبرأ من كفرياتهم بأنه صناعة للمخابرات بغية تقسيم الصف.
وينكر الإخوان على رافعي السلاح هدم الدعوة بتهورهم، وينسبونهم للعمالة، وينسون أنهم هدموها بصراعاتهم على السلطة في إطار اللعبة الديمقراطية، ثم إذا كُسروا يتهمون من لا يقف إلى جانبهم بالخيانة، فلماذا يرهن فصيل مستقبل الجميع ويورط الآخرين وهو لا يقبل ذلك من غيره؟!
ذلك لأن كل فصيل يؤمن أنه الأصل والمحور، ويتحرك وفق ما تملي عليه عقيدته، لا لخيانته للآخرين، وهل ائتمنوه يوما حتى يخونهم؟ وهل وعدهم فأخلفهم؟ وهل عاهدهم وغدر بهم؟ بل كلٌّ يسير في سبيله.
إن الخائن هو من يتبنى عقيدة علنية ويحاربها خُفية أو ينقلب عليها علنا، أما الصراع بين العقائد فليس خيانة، ولكنه عداء ظاهر، ولا توجد عقيدة خائنة بل صراعات بين إيمان وإيمان، بين منهج حياة ومنهج آخر، في ولاءات ظاهرة، ومن لم يهضم هذا سيُخدع ألف مرة ولا يستفيق.
يجب أن ندرك أن الولاء متقرر بين أتباع العقيدة الواحدة كمعطيات وبديهيات ننطلق منها، لا كما يفعل دعاة الجهاد الذين يقفزون على العقيدة، وينامون على وهْمِ أن هؤلاء وأولئك فئة يفيئون إليها، ورصيد يجدونه عند الحاجة، ثم يفزعون ويصابون بالاحباط لما يسمونه بالخيانات عند المواقف الفاصلة، فيفترضون انتماء أمتهم إلى عقيدتهم ثم يصطدمون بالواقع المر، فموالاة الكفار خيانة عند المسلمين وكفر، لكنها عند الناس اليوم اتباع لعقيدة سائدة وترجمة لها دون خجل أو خوف، بل هي أمل منشود لأنها استجابة للدين الظاهر.
وليس ضروريا أن تكون إيران عميلة لأمريكا، وإن كانت قد استعملت شعارات مخادعة مادامت عقيدتها تبيح النفاق والكذب بل توجب ذلك، وربما كان هذا مبررا لتفسير ما تقوم به بالخيانة، ولكن عقيدتي الطرفين كانتا أقرب إلى بعضهما، فقام تحالف علماني وثني ضد عقيدة مستقبلية تعادي الطرفين، لكن الناس يتجاهلون العقيدة، ويركزون على إثبات سوء نية الخصم وخيانته.
وعقيدة ما يسمى بالسلفية العلمية والطرق الصوفية هي التي تدفع أهلها بتأويلاتهم للوقوف إلى جانب العلمانية في حربها على الإسلام، وليس بالضرورة أن أهلها عملاء يتلقون مرتّبات سرية كما يتصور البعض، فقد تستغل أجهزة المخابرات نقطة الضعف، وقد تستغل العقيدة، فحتى الشيوعيون الماديون عبر العالم كانوا يتجندون دون مقابل لصالح السوفيات إيمانا بعقيدته وخدمة لها، ما بالك بمن يؤمن بأن عمله جهاد في سبيل الله يثاب عنه يوم القيامة، وقد يكون المال موخزا للضمير.
وليس بالضرورة أن علماء البلاط باعوا الدين بالدنيا واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، كما يفسر الفقراء وطلاب الدنيا عادةً حركات الناس وسكناتهم، فليست الانتهازية وحدها سبب مواقفهم التي تظهر لنا غريبة، ولكن لهم ميزان آخر في تحديد الأولويات والأصل والفرع والخلاف الأساسي والثانوي وما يجوز السكوت عنه وما لا يجوز، سواء اتفقنا معهم أو اختلفنا.
وآخرون وقفوا ضد الخارجين على الحكام في سبيل الشريعة ودعَوا للتعاون مع الحكام فلاحقتهم تهمة الخيانة، ثم ما لبثوا أن وقفوا مع الثورات فاتهمهم الحكام بالعمالة للخارج، ولا شيء من ذلك ولكن عقيدتهم جعلت الحرية الديمقراطية أصلا للدين، ويقدمونها على الشريعة لأنها أولى مقاصدها عندهم.
ويثور الديمقراطيون والشيوعيون ويضحّون بشعوبهم في سبيل ما يؤمنون به، وحين يثور آخرون في سبيل الإسلام أو جزء من الإسلام يقال أنهم عملاء صُنعوا لتبرير تشريد الشعب وإنهاكه وإجهاض ثورتنا.
وهؤلاء الرافعون شعار الإسلام يُستغلون كغيرهم، لكن خصومهم يعتبرون وجودهم في الساحة وبقاءهم على قيد الحياة دليلا على فساد المنهج، وأنهم مجرد دمية، كأن الليبراليين والشيوعيين لا يمكن استغلالهم وهم يَعرضون خدماتهم على الشيطان كلما سنحت لهم الفرصة، فيُسمح لهم بالتغلغل في الدولة، ويُجنّدون لتجفيف منابع الإسلام عندما تدور الدائرة على خصومهم.
وليس من واجب أحد أن يغير مبادئه لمجرد أن أحد أعدائه يستفيد منه عرضا لا قصدا، وليس من واجبه الانضمام إلى الآخرين ليقيم لهم دولة لا يؤمن بها بحجة أنهم مظلومون، فهؤلاء الثائرون الذين نتعاطف مع تضحياتهم اليوم هم أنفسهم الحكام المجرمون في المستقبل حربا على الإسلام وكل من يقترب منه، وقد بدأوا الآن كيف إذا تمكنوا من بعد؟! كذلك يأمرهم دينهم، ولنا في اليسار العربي عبرة، فطالما ناصر الشعوب المقهورة من طرف الاحتلال الغربي، واستقدم الاحتلال الروسي لمناصرة المجرمين من أهل عقيدته ليقهروا تلك الشعوب.
لهذا التيار المنتسب إلى الإسلام مشروعه الخاص، وهدفه المستقل عن أهداف غيره، وليس من واجبه اتباعكم والقتال دونكم حتى يبرأ من تهمة الخيانة، وكيف يُعتبر خائنا من يطبق عقيدته ويعمل لإنجاحها؟ فمن حقه أن يستغل الفرصة الملائمة للتقدم على الخصوم، ويستغل الفراغ ويسعى لملئه، حتى وإن كان ذلك في مصلحة طرف ما، وكل عداوة بين طرفين تكون في صالح طرف ثالث، فقتال الصحابة لمشركي العرب كان في صالح الفرس والروم، وقد كان هناك صراع بين الفرس والروم، لكن المسلمين قاتلوا في سبيل عقيدتهم الخاصة ولم ينظروا للصراعات الجاهلية.
كل التيارات تُخترق، وقد يكون الاختراق عميقا يصل إلى أعلى مستوى، وقد تُصنع لها زعامات عميلة لتتحكم في مسارها، فالطغاة من الحكام والغزاة في هذا العصر لا يحملون السيف فقط، بل يستغلون التنوع والاختلاف في المجتمع، ويشجعون عقائد متناقضة يصارع بعضها بعضا، من مختلف التوجهات نحو الإسلام ومن الإلحاد بألوانه الشرقية والغربية، ويشجعون كل الأطراف على التباعد، ويقودون الجميع إلى الصدام وإلى الصلح عندما يكون ذلك في صالحهم، يجري هذا في الأنظمة الفردية كما في الأنظمة التعددية مع اختلاف في الشكل.
رأينا الناس بمختلف توجهاتهم يشاركون في التغيير دفعا للظلم المسلط على الجميع، ثم يتم تقسيمهم أثناء الثورة باستفزاز شعائر الإسلام مثلا، فيتجه قسم نحو رد الفعل، وآخرون يحرصون على التمسك بالعلمانية لضمان التأييد الخارجي، أو يتم تقسيمهم بعد نجاح الثورة في ظل الديمقراطية عن طريق حرية التعبير المنفلتة والاستقطاب السياسي الحاد.
فيُستعمل التيار العلماني للقضاء على التيار المتجه نحو الإسلام عندما يشكل الخطر الأكبر، فيتحالف الحاكم والمعارض والمحتل الأجنبي لأنهم أقرب إلى بعضهم عقيدةً، وقد يفسحون المجال مؤقتا لهذا العدو المشترك لتحجيم معارضة علمانية أخرى وكسر شوكتها، وإظهار النظام الحاكم كوسط بين طرفين.
مثلما سمح الإنجليز لخصومهم اليساريين بحكم مصر للقضاء على الإخوان الذين كانوا الطرف الوحيد القادر على صنع البديل، فهل كان من واجب الإخوان وغيرهم أن يرفضوا رفع السادات يده عن نشاطهم بهدف ضرب الشيوعيين الناصريين؟ وهل رفض الشيوعيون ذلك زمن عبد الناصر؟ وما زالت الأمور على حالها وستبقى.
والإختراق واقع ومنتشر على أوسع نطاق بين الدول والكيانات، ويتجلى للعيان في زمن الحرب والمواقف الفاصلة، لكن هذا لا يعني فساد المنهج، وفي بعض الأطراف لا يوجد الإختراق فقط ولا العمالة فقط، بل الولاء الظاهر، فبعد الإيمان بعقيدة العدو والدفاع عنها لا مجال للكلام عن العمالة، ولكنه انضواء كامل وانتماء للعدو، وهنا لا يبقى معنى لتحصين الصف من الاختراق.
فالأنظمة العربية اليوم مثلا لا يُخشى عليها من خطر الاختراق لأنها صناعة غربية في الأساس كمبادىء وكمؤسسات، وهي التي تتقدم في الحرب على الإسلام وأكثر تشددا في ذلك، بل الغرب يأخذ عنها الدروس في هذا الشأن.
والاختراق قد ينحصر في طابع الجوسسة والتنصت البشري أو التكنولوجي، وقد يأخذ طابع التغلغل في الدولة أو تيار ما بغية الوصول إلى درجة القيادة لتحويل المسار، ويقع هذا بين الدول الكبرى ما بالك بالدول الضعيفة والأحزاب والجماعات المنفتحة.
فنحن في زمن تعقّدت فيه الحروب، فلم تعد الصراعات واضحة الجبهات والأهداف كما كانت بالأمس، فالجوسسة لم تعد مقتصرة على التنكر والدخول وسط العدو للاطلاع على أسراره واستغلالها، وإنما تجاوزت ذلك بكثير إلى التحكم في العدو وصناعة خياراته، والعمل قد يكون من داخل الصف المعادي لتشجيعه على الانحراف أو التميع أو الغلو أو التهور.
وتغيير المسار العقدي ممكن إذا لم توجد عقيدة بيّنة المعالم، فإذا اتضحت العقيدة عند الناس لا تستطيع أي استخبارات تحويل بوصلتهم، لكن إذا كانت مجرد عاطفة وشعارات مرحلية فيمكن تمييعها بسهولة واستثمارها.
فالعقيدة الواضحة والثابتة هي التي تصد المخابرات عن صناعة خيار آخر بنشر الأخبار والشبهات والفتاوى الباطلة، والإيمان الراسخ هو الذي يصدّ الهجمات ويصمد أمام الشهوات، ويقف سدا منيعا أمام الابتزاز وشراء الذمم.
وثبوت الاختراق في جهة معينة لا يدل على انحرافها ولا يمنع الولاء لها، لكن إذا وصل تأثيره إلى الانحراف العقدي وتغيير المنهج فهذا يوجب تغيير جهة الولاء.
فحتى الدول التي أقامها الأنبياء وقع فيها الاختراق، وكذلك هي الحرب خدعة، قال الله تعالى:
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة: 14).
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (التوبة: 101).
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (التوبة: 107).
والحل هو استخلاص المبدأ وتحصينه من الشبهات، لمنع الانحراف العقدي والمنهجي، سواء كان انحرافا ذاتيا داخليا أو مؤامرة خارجية، وترسيخ الإيمان بالعقيدة في قلوب أهلها ووجدانهم، ثم تحصين الكيان بذكاء وفطنة من الدسائس والأخطار التي تهدده، وتعمل على النيل منه ومن وحدته.
وهي في الواقع تجارب الأمم جيلا بعد جيل، ووسط هذه الفوضى تتراكم الخبرات، وكلما قويت جهة حافظت على نفسها من خطر الاختراق والتحريف والانحراف، والكبار ليسوا لاعبين إلى الأبد، بل سيصبحون يوما بعد يوم ملعوبا بهم، (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140).
وكما يستغل كل دين حرية الدعوة كذلك يستغل الفراغ الأمني وانهيار الدولة للتمكين لنفسه عسكريا، مادام يملك مشروع حكم سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، فهو يتبع ما تأمره به عقيدته ولا يستشيرنا في ذلك أو ينتظر إذنا منا.
إن الإسلام هو الوحيد الذي يمكنه أن يوحد من ينتسب إليه اليوم بعد أن فرّقتهم الأهواء والعصبيات، وهو الوحيد الذي يوحد الشرق والغرب في عداوته، إذ يتحد الليبرالي واليساري والأمريكي والروسي والوثني والملحد والمخلص والخائن، ويستعمل قويُّهم ضعيفَهم لقتال جهة واحدة، فالجميع ينسون خصوماتهم ويرمونه عن قوس واحدة، مما يبين مصداقية هذا التيار الباحث عن الإسلام وجدّيته في التغيير.
هي الحرب الجدية الوحيدة التي لا حدود لشراستها ووحشيتها، تَعادى فيها الأصدقاء وفُضح فيها المتشبعون بما لم يُعطَوا على رؤوس الأشهاد، واتّحد فيها الأعداء وإن كانوا يختلفون في تفاصيل ثانوية، هي خطط الحرب وغنائمها لا أهدافها.
فالجميع يطلب حق (مكافحة الإرهاب)، فهو السبيل الوحيد لاكتساب الشرعية، يقولون: نحارب مع أمريكا ضد هؤلاء الذين يشوّهون الإسلام، ثم يقولون أن أمريكا صنعت هذا التيار لتشويه الإسلام، وهناك إجماع دولي ووطني بين الموالاة والمعارضة السياسية والمسلحة على محاربة جهة واحدة تسمى وحدها بالإرهاب.
الوحيد الذي أجمعوا على تخوينه في خط مرسوم ودائم بين كل هذه الطوائف والقمامات الجاهلية هو من يقترب من الإسلام ولو لم يبلغه، فلكثرة حديثهم عن العمالة والاختراق في حقه يتصور الناس أنه لا يوجد في هذا التيار إلا الخيانة، وكله مجرد صناعة من المبدأ إلى الهياكل والقادة وربما حتى الأتباع.
والواقع أن أمريكا لا تتغاضى عن هؤلاء مؤقتا لأن دينهم يخدمها أو أنهم عملاؤها، بل لأنكم تخافون دينهم مثل أمريكا، وتميلون إليها ضدهم فهي تقاتلهم بسواعدكم، فالإرهابي في الغرب وعندكم واحد، وهذا يثبت التهمة عليكم قبل غيركم، فاختراق أمريكا لهذا التيار لا يبرّر ولاءكم لها، فأنتم أصل المشكل، ولولاكم ما لعبت هذه اللعبة، وقد فهمتم الرسالة لأنكم مؤمنون بنفس الشيء أصلا.
وقولكم أن هذه التنظيمات أنتجها الغرب كفزاعة، يثبت أن المشكل فيكم، فالسارق هو الوحيد الذي يفزع عندما يقال له أن الإسلام قادم ليقطع الأيدي، وقولهم: إن لم نحكمكم نحن سيحكمكم الإسلاميون، يعني أنهم يستغلون فزعكم من الإسلام، ولو كان مقتصرا على شيء من الأخلاق والشرائع.
فأنتم جزء من الرأي العام العالمي الذي يخشى الخطر الإسلامي، والإسلاموفوبيا التي يتحدثون عنها في الغرب خرجت من بلاد العرب، وإذا فزع الغرب من خطر هؤلاء فلماذا تفزعون أنتم منهم أكثر مما تفزعون من المستبدين بل من المحتلين؟
لم يكن للغرب أن يتخذ هذا التيار بُعبعاً لإخافتكم لولا إيمانكم بوجوب محاربته إلى جانبهم كمسلّمة لا جدال فيها، وهذا يدينكم أكثر منه، ولم يكن للغرب أن يتخذ هذا التيار مبررا للتدخل لولا اعتقادكم أن الإقتراب من الإسلام تطرف وإرهاب، فأنتم الذين تتخذونه مبررا للإرتماء في أحضان الغربيين وإدخالهم لحمايتكم، وتفخرون بشراكتكم معهم في محاربته.
إنه منطق سخيف ذاك الذي يريد إقناعنا عن طريق النباح المتواصل بأن أي محاولة لاتباع الإسلام ـ ولو كانت ناقصة أو مشوّشة ـ هي مؤامرة غربية على الأنظمة التي تحكمنا بدين الغرب نفسه، وهي مجرد مكاتب إقليمية لرعاية مصالحه، وجيوشها مجرد كتائب في الحلف الأطلسي، ومع ذلك فهي أصل أصيل وأهلها سادة محترمون فوق كل الشبهات، أما العقيدة النابعة من تاريخ وأصالة هذه الأمة بعد أن ضيّعتها مع الزمن والتي تقاوم تلك العقائد المستوردة هي نتاج عمل مخابراتي دولي لتركيع الأمة!
يريدون أن يثور الجميع في إطار دينهم وإلا فهم عملاء للعدو، فإن استجابوا لرغبتهم أقاموا بهم دينهم وبنَوا بهم دولتهم، ثم أحالوهم على المعاش وهم صاغرون في أحسن الأحوال، وفي أسوئها ما رأيتم وذُقتم.