إلى الأمـــــام

إلى الأمام

إلى الأمـــــام

الكاتب: محمد سلامي

 لم ألتق يوما أحدا ممن يبحثون عن الإسلام على اختلاف مستوياتهم في التقدم نحو الإسلام وسألته عن هذا الزمان بالنسبة لما كان من قبل إلا قال: الآن أفضل مما كنا عليه من قبل، منذ عقود من حياتنا المعاصرة، بل منذ سنين فقط.

   فالذين تدارسوا التوحيد قبل عشرين سنة فقط كانت عقائدهم مهلهلة أكثر، وكان ذلك كل ما وصلوا إليه بالنسبة لمعطيات زمانهم، ولكنهم وضعوا أرجلهم في الطريق، وما توصلوا إليه يومها كان نقطة انطلاق لمن جاء بعدهم، فدوما يجد طلاب الحق المادة الخام التي تعينهم على تكوين خلاصة، وتحفظهم من الوقوع في أخطاء من قبلهم.

   فالجيل الذي يناظر ويناقش ينبثق عنه جيل يعمل بالخلاصة، وكل محاولة تمهّد الطريق لما بعدها، وكل تجربة تنتهي إلى نتائج تكون مرتكزا لما بعدها، فكلٌّ يكمل ما نقص الآخر ويستدرك نقاط ضعفه، حتى تكتمل صورة العقيدة وتتجمع حقائقها، فنحن نجمع ما تمزق ونجدد ما ذبل منها ونحيي ما أماتوه.

   فهذه الحركية التي نعيشها ثورة ونقلة في الصراع، جعلت الناس يفكرون باهتمام بالغ في مسائل العقيدة عوضا عن تفاصيل الشريعة كما كانت عليه العادة منذ قرون، إذ أدركوا أن هناك كفرا يحيط بهم ولا يمكن مواجهته بالشرائع والشعائر والأخلاق، بل يواجَه بنقيضه وهو التوحيد.

   ولا تستخلص الزبدة إلا بعد مخض الحليب، فالزبدة المستخلصة من عملية رجّ ومخض وتصادم العقائد بدأت تصفو وتنعزل لوحدها وتستبين حدودها.

   فعندما تُطرح أي عقيدة للنقاش والتفكيك والتشريح والغربلة تَكتشِف أخطاءَها وتُصلِح نفسَها، بخلاف ما لو بقيت في أوساط مغلقة، وعندما يلتقي الموجب والسالب بطريقة صحيحة يشتعل المصباح ولا تقع صعقة بالضرورة، وقد قيل أن الدعوات تولد ناقصة وتستدعي جدلا من أجل إنضاجها.

   ولنكن على ثقة أن هذا الحراك وهذه التجاذبات ستؤدي في النهاية إلى الحق لا محالة، لأن النقد والنقد المضاد سيُخرج مكنونات المسائل وأوابدها وشواردها ويسبر غورها، كما تنفي النار خبَث الحديد.

   (أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرعد:17)

   نحن نسير في الطريق الصحيح مادمنا نصحح مسيرتنا، فكلٌّ منا يصحح أخطاءه، ولا أحد يوحى إليه في آخر الزمان فيستغني عن غيره، ولا أحد يكبُر عن النقد ويشبّ عن طوقه، فنحن والحمد لله ليس في ديننا فاتيكان.

   ولا بد مع الحوار من خلاف، وهذه الخلافات ليست فوضى، وليست نتيجة للبحث في العقيدة كما تشير إليه النظرة السطحية للأمر، وإنما هي إضاءات على كل المسائل حتى لا تبقى فيها مساحات مظلمة، والمشاهَد أن الصواب هو نهايتها في كل مرة ولو بعد حين، وهذا عندما تتغلب عناصر الجذب على عناصر التنفير الذاتية والخارجية في كل دعوة.

   بالطبع في مسيرة البحث عن الإسلام سيكون هناك جنوح وتسيب وإفراط وتفريط، فالتقدم العام يتجاوز الخلافات والتراجعات والإنكسارات، فهي معارك صغيرة في إطار الحملة الشاملة نحو الإسلام، ولقد بدأنا نتلمس الطريق فمنا من يسير أسفل الطريق ومنا من يسير أعلاه، ومَن يسير على جانبي الطريق يوشك أن يسير فيه.

   كل عصر بالنسبة لما قبله هو أفضل حالا و أقرب إلى تمثل الإسلام، وأهله ينظرون إليه على أنه سيحقق لهم الإسلام المنشود، وعندما تظهر نقائصه يتجاوزونه إلى ما هو أفضل وأقرب.

   ولا شك أن كل محاولة يرى أصحابها أنهم أمسكوا بطرف الحبل وفكوا المعادلة، ماداموا يرون أنهم تفوقوا على من قبلهم، ونجوا من أخطائهم العقدية والمنهجية، لكن الجيل الذي يتقدم خطوة تكون قد استهلكت بعض طاقته وجهده، فإن بقيت له إرادة وطاقة زادَ خطوات أخرى وإلا احتاج لجيل آخر.

   ما يجب أن نفهمه هو أننا نعيش مرحلة انتقالية، وهناك تفاوت في نسبة التقدم نحو الإسلام بين مختلف الشرائح، فمنا من هو في بداية الطريق، ومنا من هو متقدم أكثر، ومنا من وصل أو كاد، ومنا من يتخلف أيضا.

   والضلالات الواقعة تقع في إطار التقدم الشامل نحو الإسلام، لا تراجعا إلى الوراء بعد صفاء العقيدة، كما كان الحال في قرون الإسلام الأولى، وكما وقع لطوائف أهل الكتاب بعد أن جاءتهم البينات.

   قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا على حوضي أنتظر من يرد عليَّ، فيؤخذ بناس من دوني، فأقول: أمتي، فيقول: لا تدري، مشوا على القهقرى). (رواه البخاري)

   وهذه الدعوات اليوم لا ينطبق عليها هذا ولا قول الله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (آل عمران: 19)، بل هي في عمومها ظاهرة صحية باحثة عن الإسلام غير متهربة منه، هذا بالنسبة لما كان قبلها، فلم يكن الناس على عقيدة سليمة ثم هم يبدّلون ويتقهقرون ويتفلتون منها بغيا بينهم وهوى وتحاسدا، بل العكس هو الصحيح.

   وهذه الشبهات التي يتضايق منها أهل الحق وقد تفتن أناسا ستعمل بطريقة عكسية على إظهار الدين وإبرازه ولا يُخشى على الدين منها، ولسنا في زمن كانت العقيدة فيه صافية حتى نخشى الفتنة، لأننا ولدنا في الفتنة ونعيش بين أحضانها أصلا، وسط الجاهلية لا في خير القرون.

   ولم ينزل الوحي بين أظهرنا كحال الصحابة الذين ساير الوحي واقعهم بتفاصيله وصنعوه وفقه، وإنما نحن نجتهد لكي نفهم واقعنا ونصححه في إطار الوحي بطريقة صحيحة.

   والقضية ليست قضية فكرة مشفرة أو معادلة نظرية حتى يعزب علمها عن الناس، وإنما هي قضية فك المعادلة بين النظرية والواقع التطبيقي العملي، فكلما حصل الإتفاق على الأصل العام ولو نظريا تبقى بعض الصور الواقعة التي تعجز الكثير من النفوس عن تحطيمها.

   لكن البعض يريد الناس منذ البداية في صورة الصحابة من حيث صفاء العقيدة أو لا يكونوا، ولذلك يتذمر وييأس مما يجري من خلاف، ويغيب عنه أن سبب كل هذه القضايا هو أن الناس يبحثون عن حقيقة الدين ويقتربون من دين الله بالتدرج، إلى أن تتلخص عقيدة التوحيد عندهم في صورة بسيطة.

   ومن الطبيعي أن لا يصل الكثيرون، وأن يكون في دينهم شوائب أخطرها عدم التخلص من الكفر نهائيا، ومن الطبيعي أن يكون فينا إفراط وتفريط وغلو وإجحاف، فعندما تطرح أي عقيدة للنقاش تظهر نقاط القوة والضعف فيها، فإذا تمكن أصحابها من تجاوز نقاط الضعف بسهولة تقدموا إلى الأمام وأضافوا دماء جديدة تدفعهم نحو المستقبل، وإلا خلّفتهم الأحداث.

   في هذا الدين شيء ما يدعو إلى النقد الذاتي، ويدفع نحو الإصلاح ورفض منطق الأمر الواقع، وفي عصرنا الردود والمراجعات مكثفة معلنة الرفض وعدم قبول الأمر الواقع.

   ومن نقاط القوة في عملية التحول نحو الإسلام هو أنه كلما انتشرت دعوة كان فيها نقد ذاتي وتطور نحو الأفضل، وأسئلة تقود إلى تصحيحات.

   والناس بصدد البحث لاكتشاف الإسلام الحق، وخطوات الإكتشاف نسبية غير كاملة، فالصحوة ليست عودة إلى الإسلام وإنما هي تقدم نحوه، ولا عودة إلا بعد مراحل من البحث والإكتشاف، وما دامت التجارب هي التي تبين الأخطاء ولا تظهر إلا بتجريبها فإن هذه الأمة ستجرب الكثير منها قبل أن تصل إلى النتيجة النهائية.

   الإسلام يفرض واقعا من صنعه، وما كان بالأمس حلما وخيالا قد تحقق اليوم فعلا، وما نراه اليوم مستبعدا سيكون غدا بحول الله واقعا معاشا، فقد بدأ الفعل الإسلامي منذ زمان يفرض منطقه ويتغلب على العقبات ويحطم العراقيل المفتعلة في وجهه والتي ليست من الحتميات كما كنا نتصوّر، وإنما الجاهلية هي التي صنعتها.

   لقد بدأ الخناق يضيق على عقيدة: اعتقد ما تشاء وافعل ما تشاء فأنت مسلم بالوراثة، وما كان مسلّمة من المسلّمات صار مثار جدل، صار السؤال: هل نحن مسلمون؟ مطروحا بشدة، ومثار السخرية ذلك الإدعاء الكاذب: الإسلام دين الدولة.

   كنا فيما مضى نتكلم عن الصلاة والآن نحن نتكلم عن الكفر بالطاغوت، وشرائع الإسلام التي كانت تُذكر على استحياء زمن الحضيض هي الآن تتحدى، وعقيدة العذر بالجهل في التوحيد لما فُكّكت وشُرّحت تحولت شيئا فشيئا إلى بديهيات يخجل الطرف الآخر من ردها، فراح يوافقها نظريا وإن لم يتبعها حقيقة وواقعا.

   لقد وجدت كافة التيارات نفسها مرغمة على الحديث في العقيدة بعد أن كانت نسيا منسيا، ولقد فرضنا الصراع الذي يجب أن يُفرض، فهم في حالة دفاع، أرغمناهم على الكلام في العقيدة وإن كانوا يستعملونها لتبرير مذاهبهم، فهم لا يجدون بدًّا من الرد على من يكفّرهم فيضطرون لدراسة التوحيد بنية الدفاع عن أمتهم لا لاتباع الحق، وبهذا يظهر تهافتهم وتطويعهم الدين لصالح الواقع المنحرف، وهكذا يعرّى الكفر.

   وليس بالضرورة أن يوافقوا شخوصنا ويأتونا تائبين، لكنهم سيجدون أنفسهم سائرين راضين في طريق لا مناص من سلوكه، فخصوم الألباني مثلا يخجلون اليوم من ذكر حديث دون التعقيب عليه براويه، وهذا بتأثير دعوته، فلم يكن تأثيره في أتباعه فقط، وقس على ذلك، فهكذا يكون الإحياء والتجديد.

   ولعل هذه الهجمة على التكفير هي آخر حلقات الدفاع في وجه المد الإسلامي، فقد أصبح الكثيرون يخجلون من الدفاع عن الكفر فيلجأون إلى محاربة التكفير ويحاولون التستر على الكفر، ولو استطاعوا الدفاع عن كفرهم وشرعنته لفعلوا، لكنهم يدركون أنهم مهزومون ويسيرون في الطريق الخطأ.

   والذين يعتقدون أن (الجهل بالإسلام لا يتحقق معه الإسلام لكن لا يصح تكفير كل الشعوب الإسلامية)، إنما ضعفهم عن مواجهة الواقع هو السبب في كفرهم ولا ينقصهم الدليل القوي.

   هذه العقيدة تتبلور شيئا فشيئا في أذهان الرواد الباحثين عن الحق، وتتخطى الشبهات وعراقيل الواقع وتحطمها جيلا بعد جيل، وتجربة بعد تجربة، ومحاولة بعد محاولة، وأصبح الواقع يخضد شوكه بل أصبح مساعدا في كثير من الأحيان.

   وهذه التجارب مهما كانت قوية وفعّالة في مساحتها الزمانية والمكانية، ومهما أثرت في حياة الفرد منا، فما هي إلا تجارب صغيرة وجزئية في إطار التقدم العام نحو الإسلام في تاريخ هذه الأمة، وما لم نصل إليه نحن نكون قد مهّدنا الطريق لمن يأتي بعدنا فيكمل المسيرة.

   ولعله مازال الوقت مبكرا لكي تهضم بعض الحقائق وتتحول إلى بديهيات يُنطلق منها دون عناء، فقد نصل وقد لا نصل إلا بعد تجارب وربما أجيال، فلا زال أمامنا أشواط لكي نبسط العقيدة وتترسخ فينا كما رسخت عند الصحابة بشكلها الصافي.

   إن نقطة الحضيض قد تجاوزته هذه الأمة، فنحن نعيش وقومنا منذ حوالي قرن في مرحلة انتقالية ولا زالت مستمرة، وهي تزداد ضراوة وتركيزا وكثافة كل يوم، مثل كرة الثلج المدحرجة، مع تنامي الوعي عند عامة الناس ونخبتهم سواء، ونحن اليوم في مرحلة متقدمة من تجميع ما تمزق ولملمة ما تفرق عبر الزمان في مسيرة الإحياء والتجديد.

   فليشترك الجميع في حملة عامة لنفض الغبار عن عقيدة الإسلام، ولنصنع من العجز قوة، ولنكفّ عن زراعة اليأس، فإن الأشياء تتوالد من أضدادها، فالحرية رد فعل على العبودية عندما تبلغ مداها، والعدل رد فعل على الظلم، والإسلام رد فعل على الجاهلية عندما يعظم شرها ويفتضح أمرها.

   وينبغي أن يفهم الجميع أن الإسلام مرحلة متقدمة من هذه المسيرة نبحث عنه ونرفع أنفسنا إلى مستواه، ولم نتركه وراء ظهورنا، كما كان عليه الحال في زمن الإنحدار حيث لا تسمع إلا همس المستسلمين الفارين إلى شعف الجبال يرددون حديث (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا) و(إنا لله وإنا إليه راجعون).

   أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم). (رواه البخاري والترمذي وأحمد وابن حبان وأبو يعلى)

   فليس المقصود هنا هو استمرار خط الإنحدار بداية من عصر الصحابة إلى يوم القيامة، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الصحابة أنفسهم في الفترة التي عاشوها بعده.

   ثم استمر خط الإنحدار بعدهم لقرون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادتُهم أيمانَهم وأيمانُهم شهادتَهم). (رواه ابن حبان) نفهم هذا إذا جمعنا بين هذا الحديث وأحاديث أخرى تبين وجود الخير في العصور القادمة، وليس سلسلة من السقوط نحو الأسفل إلى يوم القيامة.

   عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) ثم سكت. ( رواه أحمد)

   قال أبو عبيدة بن الجراح: يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا وجاهدنا معك؟ قال : (نعم قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني). (رواه أحمد والدارمي وأبو يعلى)

   وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليدركن المسيحَ من هذه الأمة أقوامٌ إنهم لمثلكم أو خير (ثلاث مرات) ولن يخزي الله أمة أنا أوّلها والمسيح آخرها). (رواه ابن أبي شيبة والحاكم)

   وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثل المؤمن مثل السنبلة تميل أحيانا وتستقيم أحيانا، ومثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أو آخره). (رواه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن حبان).

   وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته). (رواه ابن ماجة وابن حبان)

   فلكل زمان رجاله، ولا بد أن نتذكر بأن هؤلاء الأقوام الصالحين في هذه الأزمنة المتأخرة لا يصلحهم المسيح ولا المهدي المنتظر، وإنما يجدانهم مسلمين قد ساروا مراحل في طريق الدعوة وإقامة الأمة المسلمة فيقودان دولتهم.

   إن الإسلام اليوم يخترق مساحات كانت محرمة عليه من قبل في أذهان الناس، وفي شتى مجالات الحياة ليصنع البديل، في زمن وصلت المبادىء التي تحكم العالم إلى الإفلاس بصورة ليست مسبوقة، فلا توجد الآن بدائل تبهر الناس وتملأ الفراغ.

   ولم يعد ذلك الإرتباط بين اتباع الإسلام والضعف والهوان والخمول والإستضعاف كما كان، بل نافس أتباعه في الميادين الحضارية بكل مرونة، ولم يعد هناك ذلك العداء المكذوب بينهما جراء أكاذيب العلمانية التي تفضح كل يوم، وستكون الغلبة لمن أرغم الدنيا والواقع على التغير لصالحه.

   كانت الكتابات فيما مضى تحارب مركب النقص والشعور بالدونية والضعف أمام الكفر الغربي المرتبط بالحضارة، وقد أعادت الثقة للناس الباحثين عن الإسلام يومها، وقد انتقلت منذ مدة إلى الهجوم بعد الدفاع، فتبرير حقائق الإسلام بأشياء من حضارة الغرب تكلفا وغفلة أصبح الآن في خبر كان.

   وتجاوزنا ذهنية الإستسلام للأمر الواقع والبكاء على الأطلال التي كبلت آباءنا طويلا:


إذا أتـاك الزمان بضرهِ * فالبَسْ له ثوبا من الرضـى
وارقص للقرد في دولتهِ * وقل: يا حسرة على ما مضى

   وخصوم الإسلام الذين كانوا يواجهون الإيمان بوجود الله والصيام وغيرها اضطروا للتجاوب مع كل ذلك، وهم الآن يواجهون الكفر بالطاغوت وتكفير أتباعه.

   وشيئا فشيئا يتطور الأمر نحو اكتشاف استحالة العيش في ظل العلمانية وبطلان التعايش بين الدينين بالتعرف على حقيقة الإسلام، وأنه لا يجتمع مع دين غيره فضلا عن أن يعيش في كنفه ويعمل لصالحه.

   لقد تجاوزنا مرحلة التذمر من الفشل ورد الفعل بالردة إلى إصلاح الأخطاء وتجاوزها، فلا شك أنه بعد ظهور بوادر فشل أي محاولة يظهر الخط الآخر الذي يقول: دعونا من كل هذا، لكن هذا التيار لم يعد له تأثير وقد تركه الناس وراءهم، وستتغلب القوة المحركة والدافعة نحو الإسلام في كل مرة، رغم العثرات والنكبات المتلاحقة.

   فالرجوع إلى الخلف بات مستحيل التحقيق، رغم عنفوان الحرب الصلبة والناعمة على كل الأصعدة والجبهات، لأن إرادة التقدم نحو الإسلام ليست إرادة جماعات معزولة يمكن الإنفراد بها وتحييدها وإخضاد شوكتها، وإنما هي إرادة أمة بكاملها ملّت الضياع، وأيقنت أن الإسلام هو الذي يرفعها ويحقق لها ذاتها.

   فعوض أن تحاول اللحوق بالركب يمكنها أن تكون في المقدمة، ولذلك فتكاليف التغيير تهون يوما بعد يوم أمام هذا الهوان الذي هي فيه، ومكان هذه الأمة في المقدمة لا يكون إلا بالإسلام، أما بغيره فإن وصلوا إلى الركب البشري فتلك أمنية بعيدة المنال، وهي كل ما يتمنونه.

   إن المسلمين وحدهم الذين يحطمون منذ البداية قاعدة (المغلوب مولع باتباع الغالب)، لأنهم وُجدوا ليقودوا لا لينقادوا، وهم يملكون الطاقة التي تدفعهم لذلك حتى وإن أعوزتهم القوة المادية، بخلاف تلاميذ الغرب الأغبياء من بني جلدتنا الذين يرون اللحوق بالركب أقصى أمانيهم.

   هذا الكلام تحليل للواقع واستشراف للمستقبل وهو أبعد ما يكون عن التفاؤل والتشاؤم، ولسنا بحاجة إلى التفاؤل أو التشاؤم، وإنما نريد التفاؤل الذي يدعو ويُحفز على العمل، ونريد التشاؤم الذي يبلغ بالعمل مداه خوف الفشل أو أي نقصان.

   فهي نظرة استشرافية للمستقبل وفق معطيات الماضي والحاضر، وليس مجرد أمنيات نتعلل بها وأحلام نتلهى بها، فلا ننظر إلى الوراء لنتلهى بما أنجزناه وبالأشواط التي قطعناها، ولكن نتطلع إلى الأفق وإلى غد أفضل.

   فينبغي أن نفهم واقع مسيرتنا: من أين بدأنا؟ وإلى أين نتجه؟ وإلى أين وصلنا؟ حتى ندرك ما هو مطلوب منا في المستقبل.

   وإلى الأمام

15-08-2010

أرسل تعليقا لصاحب المنشور (لا ينشر على الموقع)